فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقًا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا.
وفي أباكر الأفكار بعد نقل قولي الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم، وكون ذلك هما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لَكِن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى: {إِنَّ في ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] وقوله سبحانه: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقوله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] انتهى، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلًا تامًّا في الإدراك، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضًا، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلًا دون الآخر وجهًا، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلًا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الضمير لقريش كان صلى الله عليه وسلم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم ميجئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزًا له صلى الله عليه وسلم فانكر عليهم ذلك، فالجملة خبر لفظًا واستفهام وإنشاء معنى، وقوله تعالى: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل: كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده، وقد سبق الوعد فلابد من مجيئة أو اعتراضية لما ذكر أيضًا، وقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وءظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددًا طوالًا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7] ولذا يرون مجيئه بعيدًا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترؤون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعًا وأخبارًا ما عنده من المقدار، وقراءة الأخوين، وابن كثير {يَعْدُونَ} على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضًا بطريق الالتفات لَكِن الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وقيل: المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] فتكون الجملة الأولى مطلقًا مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لإنكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال، ويكتفي في رد ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم، وأيًّا ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق.
وقيل: المراد بالعذاب العذاب الآخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل:
تمتع بايام السرور فإنها ** قصار وأيام الهموم طوال

وعلى ذلك جاء قوله:
ليلى وليلى نفي نومي اختلافهما ** بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلى كلما بخلت ** بالطول ليلى وأن جادت به بخلا

فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل: كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلابد من مجيئه حتمًا وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالًا أو أنها تستطال لشدة عذابها.
واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق، وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى.
واستدل المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى.
وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو اخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه أو هي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترعيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض اخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلًا كمواعيد المؤمنين، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الآخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقًا متى وعد به، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به.
وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والامهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدي به خبر محض لا شرط فيه؛ وقيل: المراد به وعده تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث أن فيه خيرًا له عليه الصلاة والسلام، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرًا وشرًا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد

وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم.
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كم من سكنة قرية {أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزًا لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل: لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية، وقيل: جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجيء بها هنا لعدم الترتب، وقوله تعالى: {وهي ظالمة} جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب والنكال بعد طول الاملاء والامهال {وإلي المصير} أي إلى حكمى مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أحد غيري لا استقلالًا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق باعمالهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضًا ما ذكر من الأخذ الوبيل. اهـ.

.قال القاسمي:

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي: فكم من أهالي قرية: {أهلَكِناها} أي: بالعذاب: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: مشركة كافرة: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} أي: ساقطة: {عَلَى عُرُوشِهَا} أي: سقوفها: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي: وكم من بئر متروكة لا يستقى منها، لهلاك أهلها: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} أي: مرفوع. من شاد البناء: رفعه. أو معناه مطليٌّ ومعمول بالشيد، بالكسر، وهو الجص، أي: مجصص، أخليناه عن ساكنيه، ومن شواهد الأول قول عديّ بن زيد:
شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْسًا ** فللطير في ذُرَاهُ وُكُورُ

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} أي: أهل مكة في تجارتهم: {فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ} أي: بما يشاهدونه من مواد الاعتبار: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي: ما يجب أن يعقل من التوحيد: {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي: ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الضمير في فإنها للقصة. أو مبهم يفسره الأبصار. والمعنى: ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وفائدة ذكر الصدور هو التأكيد مثل: {يقولونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عِمْرَان: 167]، و: {طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة، وهنا لتقرير معنى المجاز.
وقال الزمخشري: الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته: الذي قد تعورف واعتقد؛ أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل. فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار. كما تقول: ليس المضاء للسيف، ولَكِنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه، وتثبيت. لأن محل المضاء هو هو لا غير. وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف. وأثبته للسانك، فلتة ولا سهوًا مني، ولَكِن تعمدت به إياه بعينه تعمدًا.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أي: المبيّن في آية: {وَإِذْ قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هذا هو الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السماء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي: فيصيبهم ما أوعدهم به، ولو بعد حين: {وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ} أي: هو تعالى حليم لا يعجل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه، كيوم واحد عنده، بالنسبة إلى حلمه. لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء. وإن أنظر وأملى. ولهذا قال بعده:
{وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} أي: أمهلتها: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإلي المصير} إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم. فتأثُر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور، ببيان كمال سعة حلمه تعالى، وإظهار غاية ضيق عطنهم، المستتبع لكون المدة القصيرة عنه تعالى، مُددًا طوالًا عندهم، حسبما ينطق به قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6- 7]، ولذلك يرون مجيئه بعيدًا، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره، ويجترؤون على الاستعجال به، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها، وقوعًا وإخبارًا، ما عنده تعالى من المقدار. أفاده ابن كثير وأبو السعود.
وفي العناية: لما ذكر استعجالهم، وبيّن أنه لا يتخلف ما استعجلوه، وإنما أخر حلمًا، لأن اليوم ألف سنة عنده. فما استطالوه ليس بطويل بالنسبة إليه، بل هو أقصر من يوم. فلا يقال: إن المناسب حينئذ أن ألف سنة كيوم، والقلب لا وجه له.
وقال الرازي: لما حكى تعالى من عظم ما هم عليه من التكذيب، أنهم يستهزؤون باستعجال العذاب، بيّن أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: {وإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ} يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته: {كَأَلْفِ سَنَةٍ} لو عُدّ في كثرة الآلام وشدتها. فبيّن سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه.
قال الرازي: وهذا قول أبي مسلم، وهو أولى الوجوه. انتهى.
وقد حكاه الزمخشريّ بقوله: وقيل معناه: كيف يستعجلون بعذاب مَنْ يَومٌ واحد من أيام عذابه، في طول ألف سنة من سنيكم. لأن أيام الشدائد مستطالة، أي: تعدّ طويلة كما قيل:
تمتعْ بأيام السرورِ فَإِنَّهَا ** قِصَارٌ وَأيامُ الهُمُومِ طِوَالُ

أو كان ذلك اليوم الواحد، لشدة عذابه، كألف سنة من سني العذاب. انتهى.
واعتمد الوجه الأول أبو السعود. وناقش فيما بعده؛ بأنه لا يساعده سياق النظم الجليل ولا سياقه. فإن كلًا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي. وأن الزمان الممتد هو الذي مرّ عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال. لا الزمان المقارن له. ألا يرى إلى قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ} الخ، فإنه صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد، بعد الإملاء المديد. انتهى. وفيه قوة. فالله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلَكِناها وَهِيَ ظَالِمَةٌ}.
تفرع ذكر جملة {كأين من قرية} على جملة {فكيف كان نكير} [الحج: 44] فعطفت عليها بفاء التفريع، والتعقيب في الذكر لا في الوجود، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العَدد شُمولًا للأقوام الذين ذُكروا من قبل في قوله: {فقد كذبت قبلهم قوم نوح} [الحج: 42] إلى آخره فيكون لتلك الجملةِ بمنزلة التذييل.
و{كأيّن} اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.
وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر.
والتقدير: كثير من القرى أهلَكِناها، وجملة {أهلَكِناها} الخبر.
ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره {أهلَكِناها} والتقدير: أهلَكِنا كثيرًا من القرى أهلَكِناها، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها كأيّن بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية، وعلى الوجه الأول فجملة {أهلَكِناها} في محل جر صفة لـ: {قرية}.
وجملة {فهي خاوية} معطوفة على جملة {أهلَكِناها} وقد تقدم نظيره في قوله: {وكأين من نبي} في [سورة آل عمران: 146].
وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون، منهم من ذُكر في القرآن مثل عاد وثمود.
ومنهم من لم يذكر مثل طَسم وجَديس وآثارُهم باقية في اليمامة.
ومعنى {خاوية على عروشها} أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار.
وجملة {على عروشها} خبر ثان عن ضمير {فهي} والمعنى: ساقطة على عروشها، أي ساقطة جدرانها فوق سُقفها.
والعروش: جمع عَرش، وهو السَقْف، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها} في [سورة البقرة: 259].
والمعطلة: التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولَكِنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا.
وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئارًا في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بِئرًا واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه السلام.
والقصر: المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقًا.
والمَشِيد: المبنيّ بالشّيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجصّ: وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رُصّ به.
والقصور المُشيّدة: وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرةٌ مثل: قصر غُمدان في اليمن، وقصور ثمود في الحِجْر، وقصور الفراعنة في صعيد مصر، وفي تفسير القرطبي يقال: إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان.ويقال: إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء.